القدس بين خطري التهويد والتجهيل
د. إبراهيم أحمد مهنا – 8\8\2025
اشتدت أخيراً مخاطر تهويد القدس والمسجد الأقصى المبارك، ويأتي ذلك في ظل تنامي التيار الديني اليهودي المتطرف في الكيان الصهيوني، حتى أصبح انتهاك المسجد الأقصى واستباحة حرمته محميًا بالقانون «الإسرائيلي»، وما كان محظورا على قطعان المغتصبين (المستوطنين) من قبل أصبح مباحًا برسم القانون الجائر الذي يكرس التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، فعلى سبيل المثال كان قبل سنوات قليلة يحظر على المقتحمين رفع الأعلام الصهيونية وإظهار الشعائر التلمودية داخل باحات المسجد الأقصى، وكان عدد المقتحمين محدودًا، أما الآن فقد بلغ عدد المقتحمين قرابة 4000 شخص في اليوم، يدخلون بملابسهم وشعاراتهم الدينية، ويؤدون ما يعرف بـ«السجود الملحمي»، مرددين الأغاني والترانيم الدينية، ولا شك أن الغرض من ذلك هو تكريس الأمر الواقع للوصول إلى حالة الهيمنة الصهيونية المطلقة على المسجد-باعتباره الهيكل الثالث- كما حدث تماما مع المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل.
نعم إن خطر التهويد اليوم ليس كالسابق، فقد بات قاب قوسين أو أدنى، وعلى الرغم من ذلك فإن الخطر الأكبر على المدينة المقدسة ومسجدها المبارك ليست خطط التهويد التي يمارسها الكيان ويفرضها، بل إن الخطر الأكبر هو عملية انفصال الأمة الإسلامية عن مقدساتها، وإدراك وجوب العمل على استنقاذها من براثن الاحتلال، لقد أصبح المسجد الأقصى غريبا في أوساط كثير من المسلمين، وماذا نتوقع أن يفعل لمنع التهويد من يجهل مكانة المسجد الأقصى في عقيدة المسلمين؟!
والناظر في سبب هذا الجهل يدرك أن وراءه التقصير الساذج نتيجة عدم فهم الدور المنوط بنا، أو التجهيل الممنهج المقصود لفصل الأمة عن واقعها مما يفصلها عن القيام بواجباتها.. هذا التجهيل أدى إلى تغييب مفهوم الشهود الحضاري للأمة الإسلامية المستمد من قول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (البقرة:143)، فما عادت الأمة شاهدة على العالم بقيمها ومبادئها الرفيعة العالية، وما عادت متبوعة ولا فاعلة مؤثرة في الأمم الأخرى في مجالات الحياة المختلفة، فغابت عن أداء دورها في النهوض الحضاري، وما عادت تمثل النموذج العملي لبناء الحضارة الإنسانية كما كانت في عصور النهضة الإسلامية الرائعة التي جسدت فيها الأمة قيم الإسلام ومبادئه في الحياة فكرا وسلوكا وتشريعا وتطبيقا.
إن هذا التغييب والتجهيل هو الخطر الأكبر على القدس، فهو يسرِّع تهويدها، وإن لم نستدرك على ذلك فإن نهوض الأمة سيتأخر عقودا أخرى من الزمان.
إن التجهيل بمكانة المقدسات في نفوس المسلمين أدى إلى ضعف الوعي الديني والحضاري للقيام بواجباتهم المنوطة بهم كمسلمين، إن المسجد الحرام (ومكة عموما) هي الوطن الأهم لكل مسلم، يأتي بعده في المنزلة المسجد النبوي الشريف (والمدينة المنورة عموما)، ثم يأتي المسجد الأقصى المبارك (والقدس عموما) في المرتبة الثالثة، وبعد هذه الأماكن المقدسة يأتي بلد المولد والنشأة لكل مسلم، وأخيرا عموم دار الإسلام. وفي ظل وجود مكة والمدينة في حوزة المسلمين- ولله الحمد- أصبحت قضية القدس والمسجد الأقصى المبارك هي القضية المركزية لكل مسلم في العالم، ففيها أولى القبلتين، وثاني المساجد الذي وضع في الأرض أولا، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، حينما سأله أبو ذر الغفاري رضي الله عنه: «أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قال: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قال: كم بينهما؟ قال: أربعون» (أي سنة) [متفق عليه]، وفي رواية ابن حزم: «أربعون سنة» [رواه ابن حزم في المحلى]. والمسجد الأقصى هو ثالث المساجد التي لا تشد الرحال إلا إليها، وهو منتهى الإسراء ومبتدأ المعراج، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه إماما بالأنبياء والمرسلين ليلة الإسراء والمعراج.
إن أدرك المسلمون هذه البدهيات أدركوا أن التفريط بالمسجد الأقصى هو تفريط بما باركه الله تعالى وقدّسه، فالأقصى جزء من عقيدة المسلم، وتحريره بات اليوم فرض عين على المسلمين جميعا، بعد أن عجز أهل فلسطين عن تحريره، إذ إن تحريره فرض كفاية على المسلمين إن قامت به مجموعة منهم سقط الإثم عن الباقين، وإلا ينتقل الفرض إلى الذين يلون أهل فلسطين- دول الطوق- ثم الذين يلونهم فيلونهم حتى يعم الأمة بأسرها، وهذا ما هو حاصل الآن بعد تقاعس دول الطوق وعجزها- شعوبا ومؤسسات وحكومات- عن القيام بواجباتهم تجاه هذه القضية المركزية للمسلمين جميعا.
وقد أحسن الشيخ الغزالي- رحمه الله- عندما قال: “إن فلسطين جزء من الوطن الإسلامي الكبير، من صميم كيانه، ومن دعائم عمرانه، والسيطرة على فلسطين تفتح الطريق إلى القاهرة ودمشق وبغداد، بل إلى مكة والمدينة، فالتفكير في ترك شبر منها لليهود لا نسميه إلا كفرا بالإسلام، وجهلا فاحشا بطبيعة الكفاح بيننا وبين الاستعمار الغربي”. (من كتابه: في موكب الدعوة).
إن هذا القصور والخلل والضعف الذي ألمّ بالأمة هو الذي شجع الكيان الصهيوني على تصعيد وتيرة تهويد القدس والمسجد الأقصى، وهذا هو الخطر الأكبر الذي يحدق بمقدساتنا، إنه الجهل والتجهيل.
الدور المطلوب
* ضعف الوعي يواجه بالعمل على زيادة الوعي والإدراك عبر بناء وعي شامل بقضية فلسطين والقدس من خلال مناهج التعليم، ووسائل الإعلام، وتحديث الخطاب الديني ليصبح على مستوى المسؤولية والتحدي.
* وينبغي أن يصاحب عملية بناء الوعي فضح مخططات الاحتلال وجرائمه، وتعريف العالم بأحقية المسلمين في القدس، وفضح أذرع الكيان الصهيوني في منطقتنا الإسلامية ومحاربتها شعبيا ورسميا.
* دعم صمود المقدسيين ماديًا ومعنويًا، ودعم المجاهدين وحاضنتهم الشعبية في غزة التي أطلقت طوفانها المبارك نصرة للأقصى، وتفعيل دور المؤسسات الإسلامية الشعبية والرسمية في هذا المجال.
* بناء إستراتيجية شاملة لتحرير فلسطين وهذا يتطلب توظيف طاقات الأمة وتوحيد جهودها على كافة الأصعدة.
* توسيع دائرة الاشتباك مع العدو الصهيوني وحلفائه وداعميه في مختلف المجالات وفي جميع أنحاء العالم، ليعلم العدو أن فلسطين ليست شأنا داخليا يخص الفلسطينيين، ولكنها قضية كل مسلم وأولويته.
وختاما.. ينبغي أن يعلم الجميع أن القدس ليست مجرد مدينة تاريخية، بل هي قلب الأمة الإسلامية النابض، فإن مرض القلب تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر، فنحن أمة الجسد الواحد، كما وصفنا النبي صلى الله عليه وسلم، ومسؤولية الدفاع عنها تقع على عاتق كل مسلم.
إن فلسطين كما أنها قضية إسلامية فهي قضية إنسانية بامتياز، وينبغي أن نعمل مع أحرار العالم من المسلمين وغير المسلمين لرفع الظلم عن الفلسطينيين الذين يواجهون أبشع احتلال عرف في التاريخ البشري، ولعل حبل الناس الذي كان ممدودًا للكيان بدأ يتقطع على المستوى الشعبي، وبقي أن نعمل على تقطيعه على المستوى الرسمي أيضا، بعزل الكيان وداعميه، ونبذ التطبيع بجميع أشكاله مع هذا الكيان المجرم عدو الإنسانية.
وإن إحياء الوعي بقضية القدس وفلسطين، والعمل على كافة المستويات لحمايتها، هو واجب شرعي وأخلاقي لا يسقط بالتقادم، وإنه مسؤولية فردية وجماعية، شعبية ورسمية، ولتكن القدس في الكلمة، وفي الفعل، وفي الميادين والمحافل، كما هي في القلب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *