المولد والنشأة
ولد سماحة المفتي الشيخ محمد سليم جلال الدين في مدينة صيدا جنوب لبنان في العاشر من كانون الثاني 1912م، في عائلة معروفة بنسبها إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كان والده السيد الشيخ أحمد جلال الدين نقيب السادة الأشراف، والدته السيدة هنية الحاج عثمان الزين.
الدراسة والتكوين
تلقى المفتي جلال الدين تعليمه الأول في المرحلة الإبتدائية في مدرسة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة في صيدا، والمدرسة الرشديّة، ثمّ تابع دراسته في الكليّة الإسلاميّة في بيروت المشهورة بكلية الشيخ أحمد عباس الأزهري، وتابع دراسته الثانويّة في كلية دار التربية والتعليم في طرابلس وتخرج منها وحصل على شهادة الثانوية.
وفي عام 1935م التحق بالأزهر الشريف بمصر وحصل على شهادة العالميّة، واشتهر من مشايخه شيخ الأزهر الإمام الشيخ محمد مصطفى المراغي.
تزوج سماحته من السيدة زينب ابنة مفتي صيدا الأسبق الشيخ سعد الدين الصلح رحمه الله تعالى، وأنجب منها خمسة أولاد، ثلاثة من الذكور واثنين من الإناث.
الوظائف والمسؤوليات
عين مدرساً في كلية المقاصد الخيريّة الإسلاميّة في صيدا، وفي عام 1943م كلّف بالقضاء الشرعي في حاصبيا، ثمّ قاضٍ في صيدا وحاصبيا، وفي عام 1955م عيّن قاضٍ مستشار في المحكمة العليا في بيروت، ثم رئيساً للمحكمة العليا ومفتشاً عاماً.
كان سماحته صديقاً مقرباً لسماحة مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد رحمه الله ومعاوناً ومشاركاً له، وكان له الأثر البالغ في تنظيم شؤون المحاكم في لبنان، والقوانين الخاصة بدور الإفتاء والأوقاف وغيرها من المؤسسات الإسلامية.
شغل المفتي جلال الدين منصب رئيس جمعية المقاصد الإسلاميّة بصيدا، وكان عضواً في اللجنة الدائمة للمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى؛ وقد شغل منصب رئيس اللجنة القضائيّة فيه. كم ترأس مجلس عمدة المركز الثقافي الإسلامي المشرف على مدارس الإيمان في صيدا. كما ترأس سماحته هيئة الدعوة الإسلامية، ورئيس هيئة الإغاثة الصيداويّة في صيدا والجوار.
مواقفه ورعايته للمقاومة والمؤسسات
في العام 1982م تعرض لبنان لاجتياح غاشم من قبل العدو الصهيوني، ووقعت صيدا تحت سيطرة هذا الاحتلال، وكان الواقع الأليم يفرض وجود شخصيّة بارزة تقود المدينة في هذه الظروف الصعبة، وفي العام 1983م انتخب سماحته بالتزكية مفتياً لمحافظة صيدا والجنوب.
كان المفتي جلال الدين رجل المواقف، عزيز النفس، يستمد هذه العزة من إيمانه الراسخ، فما كان يرضى بالهوان أبداً، وقد انعكس ذلك على كل مواقفه، فتراه دائماً يوحي إلى من حوله بهذه العزة، ويفرضها حتى على خصومه، ومن ذلك وخلال الاجتياح الإسرائيلي لصيدا والجنوب عام 1982 قاوم على طريقته وانتفض في وجه قوات الاحتلال وأطلق نداءه الشهير في حينه يدعو ويحث فيه أبناء المدينة على مقاومة الاحتلال، ، وترأس الاعتصامات ضد العدو ووجوده، وحضن المقاومين وتبنى الشهداء ومن ذلك إصراره على تشييع قائد المقاومة الإسلامية -قوات الفجر- ورفيقيه؛ جمال الحبال ومحمد علي الشريف ومحمود زهرة، وأمّ الصلاة عليهم في مسجد الزعتري رغم تهديد الحاكم العسكري للاحتلال ومحاصرة المسجد. وفي نفس اليوم اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلي منزل سماحته وقام باعتقال ابنه ساطع، وأراد الحاكم العسكري بذك أن يكسر عزة سماحته.
وبُعيد الاقتحام، اتصل الحاكم الإسرائيلي بمنزل المفتي وكلّم زوجته معتذراً، وقال إن الاقتحام كان خطأً، وأنه سيعاود الاتصال في المساء لأنّه يرغب بزيارة المفتي للاعتذار بنفسه. وبالفعل هاتف الحاكم الإسرائيلي المفتي مساءً طالباً موعداً للاعتذار، ولكن المفتي المقاوم رفض استقباله مبرراً ذلك بأن الحادث المذكور لا يخصه شخصياً، وإنما يتعلق بكل من يمثلهم بصفته المرجع الديني، وعليه فإن القرار بهذا الخصوص يعود إلى قادة وعلماء المدينة.
وقامت الفعاليات والجموع الصيداوية باعتصام جماهيري في جامع الزعتري، وقد أكد المشاركون فيه على المضيّ قدماً في المقاومة ضد العدو الإسرائيلي المحتل مهما كان الثمن، وبعدها اجتمعت قيادات المدينة بكل أطيافها برئاسة المفتي جلال الدين، وقرر المجتمعون بأن الاعتذار يجب أن يكون بإطلاق جميع المعتقلين وفتح المعابر، وهذا ما تم فعلاً.
كان سجل حياته رحمه الله مليء بالعمل والنشاط والمقاومة وقد ترأس حركة الاحتجاج واسقاط اتفاق السابع عشر من أيار وانتقض رئيس الجمهورية أمين الجميل في حضوره ورفض مصافحته. كما كان لسماحته الاهتمام البالغ بالقضية الفلسطينية والتواصل دائم مع شخصياتها البارزة وخاصة الشخصيات المقدسية.
والمفتي جلال الدين كان معروفاً باجتهاده كعالم دين وبسعة اطلاعه ومعرفته الكبيرة في علوم الدين والدنيا وفي تبحره بالإسلام من أوسع أبوابه، فكان مقصد المؤمنين الباحثين عن فتوى تريحهم من أرق داهم وترشدهم الى حسن السبيل.
وصيداويا كان همه الدائم وحدة مدينة صيدا فظل يعمل حتى آخر يوم من عمره في تقريب وجهات النظر بين فعاليات المدينة وقواها السياسية، وكان ينزعج جداً حين يحصل في المدينة أي سوء تفاهم بين فعالياتها. في المقابل كانت كافة القوى في المدينة تأخذ برأيه وبمشورته وتقف عند رغبته في تجنيب المدينة أي انفعالات هي بغنى عنها.
والمفتي جلال الدين استحق عن جدارة لقب مفتي صيدا والجنوب فكان مفتي التواصل الصيداوي الجنوبي، وكان مقصد كافة القوى السياسية والحزبية بين الجنوب وعاصمته. وطيلة وجوده في مقام دار الافتاء لأكثر من ثلاثة عقود، كان اسلامياً جامعاً بكل ما في الكلمة من معنى، ولم يكن يعرف التفرقة المذهبية مطلقاً، فكان راعياً صالحاً لكل ابناء صيدا والجنوب.
وقد رعى سماحته العديد من المؤسسات والجمعيات الإسلاميّة، وشارك في افتتاح عددٍ كبير من المساجد والمؤسسات، وشارك في الكثير من النشاطات والمؤتمرات، وما زالت بصمات يديه شاهدةً على مبنى دائرة الأوقاف الإٍسلاميّة في صيدا، والمقبرة الجديدة، وصندوق الزكاة الذي أسسه في مدينة صيدا، كما رعى سماحته تأسيس الرابطة الإسلامية السنيّة في لبنان واحتضن أو مؤتمر لانطلاقتها، كما رعى تأسيس مركز المفتي الشيخ محمد سليم جلال الدين الثقافي وكان على رأس الاحتفال بانطلاقته عام 2005م.
المؤلفات
لم يكن لسماحته مؤلفات كثيرة وذلك لأنه صرف جهده في التدريس والقضاء وصياغة القوانين والأنظمة التي أمست تحكم المؤسسات الدينية الرسمية كما متابعة أعمال الكثير من الجمعيات والهيئات الإسلامية، وكان له الكثير من البيانات والفتاوى والمقالات، ومع ذلك أصدر المفتي جلال الدين عدداً من الكتب العلمية مثل؛ الزواج والطلاق، الزكاة، دليل الحاج والمعتمر، الجنائز، وكان آخر ما كتب هو قبسات من حياته جمعها في كتاب أسماه “والذكريات صدى السنين”.
الوفاة
مساء السابع والعشرين من شهر أبريل/ نيسان عام 2007م توفي المفتي الشيخ محمد سليم جلال الدين في صيدا عن عمر يناهز 95 عاماً مخلفاً ورائه تاريخاً حافلاً يجمع أعمال الخير، تعيش في ذاكرة الصيداويين خاصة واللبنانيين عامة، وإن مثل هذه القامة الذاخرة بالجد والاجتهاد تحتاج إلى باحثين يجمعون الآثار الكثيرة والعديدة؛ وخاصة في سجلات المحاكم الشرعية ودار الإفتاء والأوقاف والجمعيات، ومن الصحف والمجلات، ويدرسونها لتستفيد منها الأجيال، ولكن هناك دائماً من يمنع ويريد تغييب شخصيات القدوة الإسلامية في مجتمعنا اللبناني والإسلامي، فرحم الله شيخنا المفتي محمد سليم جلال الدين.