أعاد مشهد الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين في إطار صفقة التبادل بين «حماس» والاحتلال إلى الواجهة قضية الأسرى الذين تحتجزهم «إسرائيل» في ظروف لا إنسانية، وكشفت حرارة مشاهد لقاء الأسرى بذويهم عن حرمانهم من حقهم في التواصل معهم، وعن تدني الخدمات الصحية المقدمة لهم، وخصوصاً بعد معركة «طوفان الأقصى» حيث أوقف الاحتلال زيارات الأهالي، وقطع كل اتصال للأسرى مع الخارج الذي تحول إلى غيب كامل وقلق لا يحتمل، حسب تعبير أحد المحررين.

يطرح هذا المشهد تساؤلات حول الاختلاف بين التصور الإسلامي لمسألة الأسر وحقوق الأسير، والتصور القانوني المعاصر الذي تجسده اتفاقية حقوق الإنسان واتفاقيات جنيف.

المنظور الإسلامي

مسألة اتخاذ الأسرى مسألة قديمة وجدت لدى الأمم السابقة، ولما جاء الإسلام أجاز مبدأ الأسر خلال الحرب مع العدو، وتأكد هذا المبدأ من خلال النصوص؛ (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) (محمد: 4)، (وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا) (الأحزاب: 26)، وعن عزيز بن عمير قال: كنتُ في الأسرَى يومَ «بدرٍ»، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «استوصوا بالأسارَى خيرًا»، وكنتُ في نفرٍ من الأنصارِ، فكانوا إذا قدموا غداءَهم وعشاءَهم أكلوا التمرَ وأطعموني البرَّ لوصيةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.

وجدت تلك النصوص صداها لدى الفقهاء الذين اهتموا بتنزيلها ووضعها موضع التطبيق، وقد ناقش ذلك كُتَّاب السير والمغازي ومن خلفهم فقهاء المذاهب، ولما كان الأصل في الإنسان الحرية أجمع هؤلاء أن هنالك شروطاً ينبغي توافرها في الأسير، من أهمها: كونه مقاتلاً أو متأهلاً للقتال أو داخلاً في زمرة المقاتلين بأي وجه كان، وكونه عاقلاً، وأن يكون موالياً للأعداء، وأن تتحقق للمسلمين مصلحة من وراء أسره، وألا يكون دخل دار الإسلام بعهد وأمان.

وتغص المصنفات الفقهية بالحديث عن حقوق الأسير الذي في حوزة المسلمين، ونصوا على جملة من الحقوق المادية والمعنوية، ومنها:

1- الطعام والشراب: حث الفقهاء على توفير المطعم والمشرب للأسير تطبيقاً لقوله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) (الإنسان: 8)، قال ابن عباس: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم «بدر» أن يُكرموا الأسارى، فكانوا يُقدمونهم على أنفسهم في الغداء.

واستناداً إلى ذلك، ذهبوا إلى حرمة تجويع السجناء والأسرى فقالوا: إن من حبس رجلاً معصوماً ومنعه الطعام والشراب والعلاج حتى مات فهو قاتل يقتص منه، وذهب أبو يوسف ومحمد إلى وجوب الدية على من تسبب في ذلك؛ لأنه «قاتل شبه عمد؛ لأن الطعام والشراب والدفء من لوازم الإنسان، وتتوقف عليها حياته، فمن منعه إياها أهلكه بمنعه»، كما ورد في «الدر المختار».

2- الملبس: وهو ضرورة من ضرورات الحياة الإنسانية؛ لذلك اعتبروه حقاً من حقوق الأسير، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كسا أسيرين يوم «بدر»، وقد عنون البخاري في صحيحه باباً بعنوان «الكسوة للأسارى».

3- المسكن: وهو حق آخر ضروري من حقوق الإنسان لا ينبغي حرمان الأسير منه، ويقصد بالمسكن المكان الملائم من حيث المساحة والتجهيزات الضرورية من فرش ومنافع ضرورية.

4- الحرية الدينية: وهو حق ضروري؛ إذ لا يجوز إكراه الأسير على التخلي عن دينه والدخول في دين الإسلام، كما يجيزون أن يقيم شعائر دينه وهو في الأسر.

5- منع التعذيب: لا يقر الفقهاء مبدأ التعذيب والتمثيل بالأسرى كوسيلة من وسائل الضغط عليهم حتى وإن كان غرضه استخلاص معلومات عن العدو، وجاء في «بدائع الصنائع» أنه لا يجوز تعذيبهم بالجوع والعطش وغير ذلك من أنواع التعذيب، وجاء في «التاج والإكليل» أنه قيل لمالك: أيعذب الأسير إن رجى أن يدل على عورة العدو، قال: ما سمعت بذلك.

الأسير المسلم حقوقه ووجوب استنقاذه

وكما تحدث الفقهاء عن أسرى العدو، تطرقوا إلى الحديث عن أسرى المسلمين في يد العدو، وأثبتوا أن لهم حقوقاً، منها أن تظل رواتبهم سارية لدى الدولة المسلمة دون انقطاع حفظاً لعوائلهم، وإن قتلهم العدو فإن لورثتهم تعويضات مجزية، ومنها حفظ ماله فلا يسقط بأسره ولا ينتقل إلى غيره، ومنها حفظ ميراثه فلا يهدر، ويروى أن شريحاً كان يورث الأسير ويقول: «هو أحوج إليه»، وحكى ابن بطال أن مذهب الجمهور أن ميراث الأسير يوقف له حتى يعود، وحفظ زوجه فتظل الزوجية قائمة حتى يعود، أو يعلم حق العلم أنه مات.

ويجمع الفقهاء على وجوب استنقاذ الأسير المسلم من يد عدوه بأي وسيلة كانت، سواء بالحرب أو الفداء أو غيره، يقول الفزاري في «كتاب السير»: قلت للأوزاعي: أكان عمر بن عبدالعزيز فادى أسرى المسلمين؟ قال: نعم، كان بعث ابن أبي عمرة بفداهم، ففادى ناساً، ثم أدركه الموت، قلت: أواجب على الإمام أن يفادي أسرى المسلمين من بيت المال؟ قال: نعم، بالغاً ما بلغ، أو بأسرى المشركين، ولو واحد من المسلمين بعشرة من الكفار.

ويقول ابن رشد في «البيان والتحصيل»: سُئل مالك: أواجب على المسلمين افتداء من أسر منهم؟ قال: نعم، أليس واجباً عليهم أن يقاتلوا حتى يستنقذوهم؟ قال: بلى، قال: فكيف لا يفتدونهم بأموالهم؟ قال: قال عمر بن الخطاب: ما أحب أن أفتتح حصناً من حصونهم بقتل رجل من المسلمين، ويستنتج ابن رشد من ذلك أنه يجب على الإمام أن يفك أسارى المسلمين من بيت مالهم، فما قصر عنه بيت المال، تعين على جميع المسلمين في أموالهم، وبهذا صار فداء الأسرى واجباً على الكفاية لدى عامة الفقهاء.

المنظور القانوني

أقر القانون الدولي مسألة حقوق الأسير بعد قرون طويلة من إقرار الشريعة الإسلامية لها، وقد وضعت اتفاقيات جنيف الأربع (1949م) الإطار القانوني التأسيسي الذي نظم حقوق الأسرى في عالمنا المعاصر، ومن أهمها: الحق في الحياة، إذ حظرت على الدولة الآسرة قتل الأسرى لديها تحت أي ذريعة، والحق في الاحتجاز في أماكن آمنة بعيداً عن مناطق القتال الخطرة، والحق في الاحتفاظ بالمتعلقات والأدوات المتعلقة بالاستخدام الشخصي ما عدا الأسلحة وأدوات القتال، والحق في المعاملة الإنسانية وحظر أي عمل من شأنه تعريض حياته للخطر، من مثل تعريضه للتعذيب البدني أو المعاملة القاسية، والحق في المساواة؛ إذ يحظر التمييز بين الأسرى على أساس النوع أو الدين أو العرق، والحق في ممارسة الشعائر الدينية، والحق في الرعاية الصحية.

من الواضح أن هنالك بعض المشتركات بين الرؤية الإسلامية والرؤية القانونية بشأن حقوق الأسرى، غير أن هذا لا ينفي وجود بعض التمايز بينهما، ذلك أن الرؤية القانونية لا تتضمن آليات تنفيذية واضحة تضمن التزام الدول بتطبيق الاتفاقيات الدولية، وهناك بيروقراطية تعوق تطبيق الاتفاقيات، وليس هناك عقوبات تفرض على الدول التي لا تلتزم بالاتفاقيات.

أما الرؤية الإسلامية فهي أكثر التزاماً بالوفاء بحقوق الأسرى لارتباطها بالعقيدة والنصوص الشرعية، وعدم الوفاء بها يترتب عليه جزاءات دنيوية وأخروية، وهي من جانب آخر فتحت الشريعة الباب أمام تحرير الأسير بطرق مختلفة كالفداء بالمال وغيره.

د.فاطمة حافظ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *