المفتي الدكتور أحمد محي الدين نصار – 28\8\2025
الإنسان بطبعه ينزع إلى التدين، فقد قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)، وقال صلى الله عليه وسلم (كل مولود يُولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، فهذه الأدلة تقرر بلفظها ومفهومها أن الإنسان يولد وبه إيمان فطري وقوة خفية تسيطر عليه وعلى الحياة حوله، قوة يفزع إليها عند الحاجة، ويطمئن بوجودها في حياته، إلا أن المؤثرات البيئية التي تحيط بالإنسان قد تؤثر على سلامة ونقاء هذه الفطرة فتحرف مسارها السوي. فالفطرة الإيمانية أصيلة في النفس الإنسانية قد تذبل لكنها لا تموت، وقد تكمن لكنها لا تزول، والوحي الإلهي خاطب في الإنسان تلك النزعة الدينية ويوقظها ويرشدها للوصول إلى الحق من أقرب الطرق وأيسرها، وكلما عظم الإيمان في داخل الإنسان عظم الوازع الديني لديه.
إنّ الوازع الديني هو المحرك النفسي الفعّال الذي يدفع بالإنسان إلى ترجمة أحكام الدين إلى واقع ملموس باستحضار عظمة الخالق وقدرته على إعادة البعث بعد الممات، وأنّه سبحانه وحده الديّان يحاسب الخلق ويجازيهم على أعمالهم في الدنيا وفي الآخرة. فيتحقق في ظل هذا الاستحضار معاني الخضوع والانقياد لله، وهو خضوع شعوري اختياري ظاهري وباطني، يخشع فيه العبد لمعبوده ويسجد لعظمته طواعية دون قهر أو إكراه، وإنّما بإيمان ملؤه التمجيد والتقديس لخالق عليم بما يصلح لعباده، فلا مجال حينئذ للسلوك المنحرف بشتى صوره.
فالوازع الديني يمثل الجهاز المناعي للنفس الإنسانية، يحميها من الانحراف ويجعلها مركزاً لإشعاعات الخير والعمل الصالح والسلوك السوي، وارتكاب الإنسان للجريمة انحراف يدل على ضعف الوازع الديني لديه، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن)، فالنفي ليس موجهاً إلى أصل النزعة الدينية في نفوس مرتكبي تلك الجرائم وأمثالها وإنما هو موجه إلى درجة الإيمان والاستقامة والقوة والكمال والخضوع والانقياد لله.
ولقد تضافرت أسباب كثيرة على إضعاف الوازع الديني في عصرنا الحاضر؛ منها تراجع دور الأسرة في تربية الوازع الدينيوالتحّول المفزع للأباء إلى التشعبات الدنيوية مع سيطرة اليأس واللامبالاة، ومنها اضعاف التعليم الديني ومحاولات إلغائه من كل المؤسسات التعليمية؛ الثانوية والجامعية، المنهجية واللامنهجية، وفرض مناهج المنظمات الدولية التي تدعو إلى الشذوذ والجندرة والنسوية ووحدة الأديان…، ومنها تردّي وسائل الإعلام إلى هوة سحيقة باتت فيها وسائل تدميرية تشيع الباطل والفاحشة والإغراء، والتصهين والاستسلام، ولعل أكبر تلك الأسباب تغييب الداعية الفقيه عن مواقع القرار والتأثير؛ من المساجد، ودور الإفتاء والأوقاف، والمؤسسات التعليمية والاجتماعية والثقافية والسياسية وغيرها، وإشغالها بأشخاص متهمين في دينهم أو جهلة فاشلين، لا يمكنهم القيام بدور القدوة الحسنة في ربط الناس بالإسلام انتماءً والتزاماً، فكراً ومنهاجاً، ففقد المجتمع الداعية القدوة القوي في الحضور والتوجيه وتفعيل الوازع الديني لدى الجماهير، وإذا فقد المجتمع هذه القدوة مال الناس إلى غيرهم فكانوا عرضة لاتباع الأهواء وفريسة سهلة لأصحاب الدعوات الضالة.
إن إحياء الوازع الديني في النفوس هدف أساس من أهداف الدعوة إلى الله، وهي من وسائل تحقيق مقاصد الإسلام في المجتمع من حفظ الدين والعقل والنفس والعرض والنسل والمال، والتي إن تحققت تحقق الأمن وسعدت البشرية، فتحقيق الأمن يبدأ بتربية الوازع الديني في النفوس، الأمر الذي يستنفر همم الصادقين النشطين من العلماء والدعاة والمقاومين؛ لإعادة التقييم والبناء، ورصّ الصفوف ونبذ الفرقة والخلاف، والتعاون العريض في الجهاد لمواجهة خطر هدم هوية الإنسان بالإيمان بالله ورسوله والقرآن، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ا.ه.
